فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرف لأرسلنا كما قال غير واحد.
واعترض بأن الإرسال قبل وقت القول لا فيه كما تقتضيه هذه الظرفية، ودفع بأنه يعتبر الظرف ممتدًا كما يقال زيد في أرض الروم فهو ظرف غير حقيقي يعتبر وقوع المظروف في بعض أجزائه كما قرره القطب، وجوز أن يكون {لُوطًا} منصوبًا بأذكر محذوقًا فيكون من عطف القصة على القصة، و{إِذْ} بدل من لوط بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية، وقال أبو البقاء: إنه ظرف الرسالة محذوفًا أي واذكر رسالة لوط إذ قال: {أَتَأْتُونَ الفاحشة} استفهام على سبيل التوبيخ والتقريع أي أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت أقصى القبح وغايته.
{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين} أي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان فالباء للتعدية كما في الكشاف من قولك: سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله، ومنه ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «سبقك بها عكاشة».
وتعقبه أبو حيان بأن معنى التعدية هنا قلق جدًّا لأن الباء المعدية في الفعل المعدى إلى واحد تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة فإذا قلت: صككت الحجر بالحجر كان معناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيدًا بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيدًا عمرًا عن خالد أي جعلت زيدًا يدفع عمرًا عن خالد فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يصح هذا المعنى فيما ذكر إلا بتكلف فالظاهر أن الباء للمصاحبة أي ما سبقكم أحد مصاحبًا وملتبسًا بها، ودفع بأن المعنى على التعدية، ومعنى سبقته بالكرة أسبقت كرتي كرته لأن السبق بينهما لا بين الشخصين أو الضربين وكذا في الآية ومثله يفهم من غير تكلف، وقال القطب الرازي: إن المعنى سبقت ضربه الكرة بضربي الكرة أي جعلت ضربي الكرة سابقًا على ضربة الكرة.
ثم استظهر جعل الباء للظرفية لعدم احتياجه إلى ما يحتاجه جعلها للتعدية أي ما سبقكم في فعل الفاحشة أحد ولعل الأمر كما قال.
و{مِنْ} الأولى صلة لتأكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع والتوبيخ، وجوز أن يكون بيانيًا كأنه قيل: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا إليه من المنكرات لأنه أشد، ولا يتوهم أن سبب إنكار الفاحشة كونها مخترعة ولولاه لما أنكرت إذ لا مجال له بعد كونها فاحشة.
ووجه كون هذه الجملة مؤكدة للنكير أنها مؤذنة باختراع السوء ولا شك أن اختراعه أسوأ إذ لا مجال للاعتذار عنه كما اعتذروا عن عبادتهم الأصنام مثلًا بقولهم: انا {وَجَدْنَا ءابَاءنَا} [الزخرف: 22، 23].
وجوز أبو البقاء كون الجملة في موضع الحال من المفعول أو الفاعل، والنيسابوري جوز كونها صفة للفاحشة على حد:
ولقد أمر على اللئيم يسبني

ورد بأن الفاحشة هنا متعينة دون اللئيم، وكيفما كان فالمراد من نفي سبق أحد بها إياهم كونهم سابقين بها كل أحد ممن عداهم من العالمين لا مساواتهم الغير بها، فقد أخرج البيهقي وغيره عن عمرو بن دينار «قال ما نزا ذكر حتى كان قوم لوط»، والذي حملهم على ذلك كما أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانت لهم ثمار في منازلهم وحوائطهم وثمار خارجة على ظهر الطريق وانهم أصابهم قحط وقلة من الثمار فقال بعضهم لبعض: إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش قالوا: بأي شيء نمنعها؟ قالوا: اجعلوا سنتكم أن تنكحوا من وجدتم في بلادكم غريبًا وتغرموه أربعة دراهم فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك ففعلوه واستحكم فيهم.
وفي بعض الطرق أن إبليس عليه اللعنة جاءهم عند ذكرهم ما ذكروا في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جرؤوا على ذلك.
وجاء من رواية ابن أبي الدنيا عن طاوس أن قوم لوط إنما أتوا أولًا النساء في أدبارهن ثم أتوا الرجال.
وفي قول: {مّن العالمين} دون من الناس مبالغة لا تخفى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}.
عُطف {ولوطًا} على {نوحًا} في قوله: {لقد أرسلنا نوحًا} [الأعراف: 59] فالتّقدير: وأرسلنا لوطًا، وتغيير الأسلوب في ابتداء قصّة لوط وقومه إذ ابتُدئت بذكر {لوطًا} كما ابتدئت قصّة بذكر نوح لأنه لم يكن لقوم لوط اسم يعرفون به كما لم يكن لقوم نوح اسم يعرفون به.
و{إذ} ظرف متعلّق بـ {أرسلنا} المقدر يعني أرسلناه وقت قال لقومه وجعل وقت القول ظرفًا للإرسال لإفادة مبادرته بدعوة قومه إلى ما أرسله الله به، والمقارنة التي تقتضيها الظّرفية بين وقت الإرسال ووقت قوله، مقارنةٌ عرفية بمعنى شدّة القرب بأقصى ما يستطاع من مبادرة التّبليغ.
وقوم لوط كانوا خليطًا من الكنعانيين وممّن نزل حولهم.
ولذلك لم يوصف بأنّه أخوهم إذ لم يكن من قبائلهم، وإنّما نزل فيهم واستوطن ديارهم.
ولوط عليه السّلام هو ابن أخِي إبراهيم عليه السّلام كما تقدّم في سورة الأنعام، وكان لوط عليه السّلام قد نزل ببلاد سَدوم ولم يكن بينهم وبينه قرَابة.
والقوم الذين أرسل إليهم لوط عليه السّلام هم أهل قرية سدوم وعمُّورة من أرض كنعان، وربّما أطلق اسم سدوم وعمُّورة على سكّانهما.
وهو أسلاف الفنيقيين وكانتا على شاطئ السديم، وهو بحر الملح، كما جاء في التّوراة وهو البحر الميّت المدعو بحيرة لوط بقرب أرشليم.
وكانت قرب سدوم ومن معهم أحدثوا فاحشة استمتاع الرّجال بالرّجال، فأمر الله لوطًا عليه السّلام لما نزل بقريتهم سدوم في رحلته مع عمّه إبراهيم عليه السّلام أن ينهاهم ويغلظ عليهم.
فالاستفهام في {أتأتون} إنكاري توبيخي، والإتيان المستفهم عنه مجاز في التّلبّس والعمل، أي أتعملون الفاحشة، وكني بالإتيان على العمل المخصوص وهي كناية مشهورة.
والفاحشه: الفعل الدّنيء الذّميم، وقد تقدّم الكلام عليها عند تفسير قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة} [الأعراف: 28]: والمراد هنا فاحشة معروفة، فالتّعريف للعهد.
وجملة: {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} مستأنفة استينافًا ابتدائيًا، فإنّه بعد أن أنكر عليهم إتيان الفاحشة، وعبّر عنها بالفاحشة، وبّخهم بأنّهم أحدثوها، ولم تكن معروفة في البشر فقد سَنُّوا سنة سيّئة للفاحشين في ذلك.
ويجوز أن تكون جملة: {ما سبقكم بها من أحد} صفة للفاحشة، ويجوز أن تكون حالا من ضمير: {تأتون} أو من: {الفاحشة}.
والسبق حقيقته: وصول الماشي إلى مكان مطلوب له ولغيره قبل وصول غيره، ويستعمل مجازًا في التّقدّم في الزّمان، أي الأوّلية والابتداءِ، وهو المراد هنا، والمقصود أنّهم سبقوا النّاس بهذه الفاحشة إذ لا يقصد بمثل هذا التّركيب أنّهم ابتدأوا مع غيرهم في وقت واحد.
والباء لتعدية فعل سبق لاستعماله بمعنى ابتدا فالباء ترشيح للتّبعيّة.
و{مِنْ} الدّاخلة على {أحدٍ} لتوكيد النّفي للدّلالة على معنى الاستغراق في النّفي.
و{مِن} الداخلة على {العالمين} للتبعيض. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}.
وكما قال الحق: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} وقال: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}، {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} فهو هنا يأتي باسم لوط منصوبًا لأنه معطوف على من سبقه من أصحاب الرسالات.
وما هو زمان الإِرسال؟ إن قوله الحق: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} يفيد أن زمن القول كان وقت الإِرسال. وهي الإِشارة القرآنية ذات الدلالة الواضحة على أن الرسول حين يبعث ويرسل إليه ويبَّلغ الرسالة لا يتوانى لحظة في أداء المهمة، فكأن تبليغ الرسالة تزامن مع قوله: {يَاقَوْمِ}. والأسلوب يريد أن يبين لك أنه بمجرد أن يقال له: بلغ فهو يبلغ الرسالة على الفور، وكأن الرسالة جاءت ساعة التبليغ فلا فاصل بينهما. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: 80].
وكلمة قومه تعني أنه منهم، ولماذا لم يقل: أخاهم لوطًا؟ وهذه لها معنى يفيد أن السابقين من الرسل كانوا من بيئة الأقوام الذين أرسلوا إليهم؛ فعاد كان هود من بيئتهم وثمود كان صالح من بيئتهم وإذا كان الحق لم يقل أخاهم لوطًا فلنلحظ أنه أوضح أنه قد أرسله إلى قومه، وهذه تنبهنا إلى أن لوطًا لم يكن من هذا المكان، لأن لوطًا وإبراهيم عليهما السلام كانا من مدينة بعيدة، وجاء إلى هذا المكان فرارًا من الاضطهاد هو وإبراهيم عليهما السلام، وهذا يبين لنا أن لوطًا طارئ على هذا المكان، ولم يكن أخاهم المقيم معهم في البيئة نفسها. ولكنهم قومه لأنه عاش معهم فترة فعرف بعضهم بعضًا، وعرفوا بعضًا من صفاته، وأنسوا به.
أقول ذلك لننتبه إلى دقة أداء القرآن، فمع أن القصص واحد فسبحانه يضع لنا التمييز الدقيق، ولم يقل لهم لوط: إن ربي نهاكم عن هذه العملية القذرة وهي إتيان الرجال. بل أراد أن يستفهم منهم استفهامًا قد يردعهم عن العملية ويقبحها.
وكان استفهام سيدنا لوط هو استفهام تقريع، واستفهام إنكار، فلم يقل لهم: إن ربنا يقول لكم امتنعوا عن هذا الفعل، بل يستنكر الفعل كعمل مضاد للفطرة، واستنكار فطري. {... أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80].
وهذا يدل على أنه يريد أن يسألهم سؤالًا إنكاريًّا ليحرجهم، لأن العقل الفطري يأبى هذه العملية: {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} أي أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة؛ لأن الرجل إنما يأتي الرجل في محل القذارة، لكنهم فعلوها، وهذا الفعل يدل على أنها مسألة قد تشتهيها النفس غير السويَّة. ولكنها عملية قذرة تأباها الفطرة السليمة.
وكلمة فاحشة تعطينا معنى التزيد في القبح؛ فهي ليست قبحًا فقط، بل تَزَيُّدٌ وإيغال وتعمق في القبح ومبالغة فيه؛ لأن الفاحشة تكون أيضًا إذا ما أتى الرجل أنثى معدة لهذه العملية لأنه لم يعقد عليها، ولم يتخذها زوجا، وعندما يتزوجها تصير حِلًا له، لكن إتيان الذكر للذكر هو تزيد في الفحش.
وإذا كان هذا الأمر محرمًا في الأنثى التي ليست حلالًا له ويعد فاحشة، فالرجل غير مخلوق لمثل هذا الفعل ولا يمكن أن يصير حلالًا، يكون إتيانه فاحشة بمعنى مركّب. {... أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80].
وقلنا من قبل: إن من قد تأتي مرة زائدة، ويمكنك أن تقول إنها زائدة في كلام الإنسان، لكن من العيب أن تقول ذلك في كلام ربنا. وقوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} أي ما سبقكم أحد من العالمين، و{أحد} هي الفاعل، وجاءت {من} لتوضح لنا أنه لم يأت بها أحد ابتداءً، مثلما قلنا قديمًا، حين تأتي لواحد لتقول له: ما عندي مال. فأنت قد نفيت أن يكون عندك مال يعتد به. وقد يكون معك من بداية ما يقال له أنه مال، وقوله الحق: {... مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80].
يعني أنه لم يسبقكم أي أحد من بداية ما يقال له أحد، وسبحانه يريد بذلك أن ينفيها أكثر، ومن التي في قوله: {مِّن العالمين} هي تبعيضية أي ما سبقكم بها أحد من بعض العالمين. فما هذا الأمر؟ لقد سماها فاحشة، وهي تزيد في القبح ووصفة لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية.
لأننا حين نبحث هذه المسألة بحثًا عقليًا نجد أن الإنسان مخلوق كخليفة في الأرض وعليه استبقاء نوعه؛ لأن كل فرد له عمر محدود، ويخلف الناس بعضهم بعضًا، ولابد من بقاء النوع، وقد ضمن الله للإنسان الأقوات التي تبقيه، وحلل له الزواج وسيلة لإبقاء النوع، ومهمة الخلافة تفرض أن يخلف بعضنا بعضًا.
وكل خليفة يحتاج إلى اقتيات وإلى إنجاب. والاقتيات خلقه الله في الأرض التي قدر فيها أقواتها.
والنوع البشري جعل منه سبحانه الذكر والأنثى ومنهما يأتي الإنجاب الخلافي؛ فهو محمول أولًا في ظهر أبيه نطفة، ثم في أمه جنينًا ثم تضعه لترعاه مع والده ويربيه الاثنان حتى يبلغ رشده. وهذه خمس مراحل، وكل مرحلة منها شاقة، فحمل الأم في الطفل تسعة شهور هو أمر شاق؛ لأن الإِنسان منا إن حمل شيئًا طوال النهار سيصاب بالتعب، لكن الأم تحمل الجنين تسعة أشهر، وأراد الله أن يكون الحمل انسيابيًا بمعنى أن الجنين في نشأته الأولى لا يبلغ وزنه إلا أقل القليل، ثم يكبر بهدوء وبطء لمدة تسعة شهور حتى يكتمل نموه.